29-مايو-2022
الكاتبة المصرية نورا ناجي

الكاتبة المصرية نورا ناجي

لا أجد في تفضيل كتاب على آخر متعة القارئ العادية. فكل كتاب يعبرني يسجل حضوره في جدول مواعيدي، ويتخذ مكانه على أحد رفوف كتبي. إلا أن بعض تلك الكتب أقرِّبها مني في مكتبة جانبية بالقرب من مكتبي ليسهل عليّ تناولها كلما أردت الاستراحة من عملي، فأستعيد معها التجربة المجزأة وأعيش رجع صداها.

التقيت بنورا ناجي افتراضيًا، كما أصبح سائدًا هذه الأيام، وتبادلنا الرسائل المكتوبة والصوتية كغريبتين يحدث أن لإحداهما كتابًا، وللأخرى شغفًا به وفضولًا حوله.

قدّمت نورا ناجي الرواية بأشكال تجريبية وأساليب فنية جديدة مثل رواية: "بانا" (2015)، و"الجدار" (2016)، و"بنات  الباشا" (2017)، و"أطياف كاميليا" (2019). ومؤخرًا أصدرت مجموعتها القصصية الأولى "مثل الأفلام الساذجة" (2021) في تتبع متسلسل عميق لتفاصيل حياتية صغيرة جدًا، لكنها تشكل الحياة بكُلّيتها الخالصة. 

كتب نورا ناجي

لكن كتابها غير الروائي "الكاتبات والوحدة" هو الذي استرعى انتباهي، وحملني برحلته الفريدة عبر أصوات مترددة لعشر نساء يتحدن جميعهن بصوت نورا ناجي، وصوت كل امرأة كاتبة تمارس وحدتها وعزلتها بطريقتها. ولأن مثل هذه الصراعات تتكرر يوميًا، بدرجات متفاوتة، تقدّر صعوبتها أو استحالتها أو حتى القدرة على تجاوزها ظروف كل كاتبة، وعمرها، وحالتها الاجتماعية، والفترة الزمنية التي عاشتها. مع ذلك، لو جمعنا تلك النساء وأجلسنا إلى جوارهن في قاعة كبيرة الكثير من النساء الكاتبات، فسيجتمعن على ضحكة واحدة، ويبكين لوجع واحد، ويتأملن بدهشة أو غضب بعض المواقف والأحداث بإنسانية مشتركة. 

تبدأ نورا حديثها من القلب، فتسمع صوتها يقفز قبل الكلمات معتنقًا كل المحادثة. تلك الكاتبة الشابة التي لا تلهيها أصوات العالم حولها عن فكرتها، ولا يشتتها ضجيج المقاهي أو الشوارع عندما تنكفئ على الكتابة أمام حاسوبها المحمول من أي طاولة تجدها شاغرة. في رأسها تدور الكثير من الأسئلة حول تلك العوالم المتوازية التي يحدث أنها تعيش في إحداها باسم وعمر مختلفين، وبملابس أخرى، وبعادات تشبهها، لكن بملامح مختلفة. وعلى الصفحة البيضاء تفرد احتمالات الإجابات جميعها، فتصنع عوالم كتبها وتشكل شخصياتها في مكان وزمان حقيقيين لا يبتعدان عن تخيلّنا، لكنهما يقومان بسرقتنا من لحظتنا الراهنة على عربة من التخييل. 

ضمن جلسات "أريكة" (نادي القراءة في غرفة الكتابة)، التقينا بالكاتبة نورا ناجي بجلسة حميمية، وتحدّثنا عن كتابها "الكاتبات والوحدة" وتجربتها معه. إلا أنني طمعت بأن أتحدث مع نورا وأسبر أعماق أفكارها وعاداتها الكتابية ضمن زاوية "مساحات كتابية". إنها نورا التي تصنع عوالمها السردية في الرواية والقصة والنصوص غير الروائية، وتوضبها في حقيبة الكتف إلى جانب مقتنياتها الشخصية. مثل المطر تكتب لتطهر نفسها وتتعافى كي تستعيد أرضها حيويتها، وتشرّع أبوابها للأحلام والطيور. وقبل الغروب تتفقد معك اسمك ومزاجك وضحكتك، وتوجه بوصلة الفكرة صوب قلبك وروحها. 


  • كيف تكون الكتابة وسيلة للتعافي، وطقسًا تطهيريًا من مخاوفك السابقة وشعورك بالذنب؟

عندما نكتب نتخلص من ثقل ما. الشعور بالخفة الذي يتحدّث عنه الكتّاب عند انتهائهم من نص، هو في الحقيقة خفة التخلص من الهم أو الأفكار أو الهواجس أو المخاوف. بدأت الكتابة لأتخلص من هواجسي الكثيرة حول الفقد والموت وعذابات الأمومة، ومع كل رواية أشعر بهذه الخفة. ربما تتراكم بعدها ضغوطات وهواجس أخرى فأفرغها مجددًا في نص آخر. التطهير النفسي يعني أن تشاهد فيلم رعب مثلًا لتتخلص من دفقة القلق والتوتر الذي لا تعرف مصدره وتشعر به يغمرك. 

التطهير النفسي يعني أن تشاهد فيلم رعب مثلًا لتتخلص من دفقة القلق والتوتر الذي لا تعرف مصدره وتشعر به يغمرك

أحيانًا يتوقف البعض أمام حادث سيارة ليشعر بهذا التطهر، هذا الحادث حصل لأشخاص آخرين وليس لي، أنا لا زلت في مأمن. نفس الشيء مع الكتابة. نكتب لنضع كل المخاوف على الورق، ليعاني منها ربما أشخاص آخرون، فنشعر ولو مؤقتًا بأمان ما.

  • ما هو تعريفك للوحدة التي ترافق الكتابة؟ حدثينا عن تلك الأوقات التي شعرت فيها بالوحدة وكيف تجاوزتها؟

اليوم صرت أؤمن أن الكتابة يلزمها وحدة بشكل ما. لم أعد قادرة مثل السابق على الكتابة وسط الصخب والناس، كنت أفعلها لأني لا أملك رفاهية الحصول على بعض الوقت المنفرد. لكن اليوم، بعدما كبرت الصغيرة، بِتّ قادرةً على الحصول على بضع ساعات لأتمكن من الكتابة بذهن صاف أكثر، أو غير منشغل بالحياة والعمل والمشاوير والمواعيد. 

أشعر بالوحدة طوال الوقت حتى رغم وجودي دائمًا وسط الكثيرين. أعيش مع عائلتي في بيت صغير لا يسمح بالبقاء منفردة كثيرًا، ولي الكثير من الأصدقاء، وأحضر الكثير من الفعاليات، حتى أنني أشارك أحيانًا في جلسات كتابة جماعية في مقهى أو مكان للعمل، لكني ما زلت أشعر بوحدتي. اغترابٌ ما يجعلني على مسافة من كل ذلك، لا يمكن التعبير عن الأمر تمامًا، لكني دائمًا أرى أمام عيني صورتي وأنا جالسة على مقعد خشبي في شارع لا أذكره في مدينة إنتشون، الجبل في ظهري والطريق السريع أمامي، كنت وحيدة جدًا، ما زلت أذكر هذا المشهد وذلك الشعور، لا أستطيع الخلاص منه. وفعلًا لا أعرف سبب ذلك.

  • بالنظر إلى كتابك "الكاتبات والوحدة"، كتبت عن تلك الكاتبات اللواتي اختبرن الوحدة وتخلصن منها بتجربة الموت، والمرض، والإقصاء. ما المشترك بينك وبينهن؟ وكيف استطعت التواصل معهن للتشافي؟

اشتركت مع كل كاتبة في عدة أمور؛ فمع مي زيادة أشعر بنفس مشاعرها في التفاف الجميع حولها من على السطح، ثم تخليهم عنها مع أول مأزق تقع فيه. إخلاصها للكتابة والكتب وفنها لم يمنحها الوَنَس الذي أرادته من بشر وأصدقاء، لكنها على الأقل احتفظت بهذا الشغف إلى النهاية.

مع عنايات الزيات وفاليري سولانيس اشتركت في الشعور بعدم التقدير لفترة طويلة. ربما تغيّر ذلك اليوم، لكني لن أنسى أبدًا قسوة هذا الشعور، ولعل الحفاظ عليه داخلي هو ما يكفل لي الاستمرار.

نورا ناجي

مع أروى صالح اشتركت في الأحلام الساذجة والمثالية التي لا يمكن أن تنجينا. ومع رضوى عاشور اشتركت في الشعور بهم العالم، ثقل الإحساس بالذنب تجاه البشر والكيانات والموجودات. مع سوزان سونتاج شعرت بعبء الاغتراب والاختلاف عن المجتمع. ومع إيلينا فيرينتي شعرت بنفس الإحساس بالذنب من الأمومة. ربما الكتابة عنهن، والتعمق في أفكارهن، وتسليط الضوء على الأمور المشتركة بيننا منحني بعض العزاء، أنني لست وحيدةً بشكل أو بآخر، وأننا جميعًا نعاني لكننا نقاوم، أحيانًا ننهزم وأحيانًا ننتصر، لكننا على الأقل نقاوم.

  • حدثينا عن المساحات الكتابية التي تخوضين فيها صنعة التأليف والخيال؟

لا توجد حدود لدي في الكتابة. أتمنى الكتابة عن كل شيء وأي شيء، أتمنى أن لا أتوقف أبدًا. لا أملك تابوهات في الكتابة، ولا أخشى شيئًا. أحب الكتابة النابعة من الذات أكثر، النابعة من تجارب ليست شخصية تمامًا ولكنها تجاربي أنا في الحياة، رؤيتي لها، وجهة نظري وأفكاري وتأملاتي، مشاعري وأسئلتي الشخصية. وأحب أن تتحول كتاباتي إلى شيء صادق يصل إلى القلوب، يتماسّ معها ويمنح من يقرأها لحظة عزاء، لحظة وَنس، لحظة مشاركة.

  • صفِ لنا اليوم المثالي للكتابة؟

لا يوجد يوم مثالي للأسف. في كل يوم أكافح من أجل إنهاء العمل والمسؤوليات والحصول على بعض الوقت الفارغ لأكتب، لكني أفشل. ما توصلت إليه هو أن أكتب في أي وقت، أن أذهب وأجلس في مقهى، أو أن أغلق باب حجرتي علي وأكتب، ساعة ساعتين ثم أعود مرة أخرى للواقع. الكتابة بالنسبة لي تحولت إلى لحظة اقتناص أو صيد. أو، مثل العبادات، لا بد من القيام بها رغم المشاغل.

  • من هم الأصدقاء الذين تشاركيهم مسودات مشاريعك الكتابية؟ حدثينا عن علاقتك بهم؟ وكيف تتلقين الملاحظات والنقد منهم؟

أملك دائرة من أصدقاء وكتاب يشاركونني دائمًا رأيهم، رامي حمدي، ونهلة كرم، وعلاء فرغلي، ونشوى صلاح، وآيات محمود، وعلياء طلعت. وأحيانًا أسمح لقارئ ليس صديقًا لكني أحب أن أسمع آراءه وملحوظاته، فيقرأ معي ويخبرني بانطباعاته، لكن في المرحلة الأخيرة من الكتابة. أسمع كل النقد وأصغي للملحوظات وكثيرًا ما أعمل بها. لو كانت الملحوظات جيدة لكنها لا تناسبني، أتركها قليلًا لأفكر فيها مرات عديدة في مرحلة التحرير والمراجعة.

  • ما هي الشرارة التي دفعت بك لكتابة كل عمل من أعمالك؟ رافقينا في رحلة قصيرة مع كتبك وأخبرينا عن محفزاتك للكتابة ومشاعرك أثناءها؟

مع أول رواية "بانا"، كنت أرغب في الحديث عن نفسي وعن ذكرياتي، وعن تجميع قصص ومواقف سجلتها على مدونتي القديمة. كانت نوفيلا صغيرة وربما ساذجة لكنها أصيلة، وتحمل روحي الحقيقية، وإلى اليوم أقرؤها وأفكر أن فيها بذرة كل الأعمال التي تلتها. وكنت أيضًا أدخل بها عالم النشر وأستكشف كواليسه. 

أحب الكتابة النابعة من الذات، النابعة من تجارب ليست شخصية تمامًا، لكنها تجاربي أنا في الحياة، رؤيتي لها، وجهة نظري وتأملاتي وأفكاري

أما تجربتي مع ثاني رواية "الجدار" التي بدأت كتابتها في كوريا الجنوبية، فقد كنت أتعذب من الغربة والوحدة واكتئاب ما بعد الولادة، والعمل على تقارير صحفية عن العنف الأسري. "الجدار" أنقذتني من الجنون والاكتئاب لأني وضعت فيها كل مخاوفي وهواجسي.

في "بنات الباشا"، بدأت الحكاية من تفجير كنيستي "مار جرجس" و"مار مرقص" في طنطا والإسكندرية. تأثرت كثيرًا بما حدث، وكنت أملك فكرة حالمة عن رغبتي في امتصاص آلام البشر، امتصاص الأمراض من الأطفال والقسوة من القلوب، حتى لو آذاني ذلك. أخبرت طبيبي النفسي بفكرتي فأزعجته كثيرًا، وطلب مني التخلص منها بالكتابة عنها.

في "أطياف كاميليا"، بدأت الحكاية بالاستماع إلى قصص نساء العائلة عن حكاية امرأة غادرت بيتها وتخلت عن حياتها ولم تعد. فضولي الشديد لمعرفة السبب الحقيقي الذي يمكن أن يدفع امرأة لذلك كان شرارة الكتابة، إلى جانب رغبتي في استكشاف الكثير عن الحياة والزمن والمحبة والكراهية.

نورا ناجي

في "الكاتبات والوحدة"، لاحظت أثناء جلسة مع صديقات كاتبات ومحررات ومترجمات أننا جميعًا نشعر بالوحدة - رغم امتلاكنا لحياة صاخبة وعائلة وأطفال وحب - فاسترجعت حكايات كاتبات كثيرات في لحظات، ثم جاءتني فكرة كتابة سلسلة مقالات عن "الكاتبات والوحدة".

وفي المجموعة القصصية "مثل الأفلام الساذجة"، كانت الكتابة على فترات طويلة، فكل قصة حملت جزءًا من روحي ومشاهداتي للعالم والحياة والناس، والمشاهد التي نصادفها في شارع في مقهى في وسيلة مواصلات.

  • بالتأكيد كل كتاب وله مكانته الحميمية الخاصة عندك، ولكن ما هو مشروع الكتاب الذي تتوقين لكتابته؟

ثمّة رواية عن التناقضات الكثيرة في الحياة، وعن كواليس حياة امرأة تبدو عادية لكنها غير عادية. رحلة بحث عن كاتبة هي أنا، رحلة خوض في تفاصيل حياتي الشخصية الخفية وكأنني شخص آخر، أريد أن أبحث عن نفسي وكأن حياتي السابقة لم تكن حياتي.

  • ما هي نصائحك للنساء كي يتجاوزن أي مخاوف يواجهنها أثناء الكتابة؟

الكتابة تتطلب الشجاعة، وتتطلب المواجهة. على المثقف أو الفنان أن يملك موقفًا، لا يعني هذا موقفًا عامًا أو سياسيًا أو بطوليًا، يكفي أن يتخذ موقفًا في مساندة نفسه والدفاع عن حقه في التعبير، يجب تلقي الهجوم بشجاعة، ويجب التمسك بالأفكار. النساء يتعرضن للكثير من الهجوم والنقد، علينا أن نكون أكثر شجاعة، وأن نتلقى النقد بصبر وهدوء وبلا انفعالات.

  •  اذكري لنا موقفا طريفًا مع أطفالك حفزك لكتابة نص، أو بنيت عليه فكرةً ما في أي من كتبك؟

أعتقد أن ابنتي هي السبب في بدئي للكتابة. لكن للأسف ابنتي لا تحب القراءة بالعربية كثيرًا، وتفضل القراءة بالإنجليزية. ورغم أنني أهدي كل رواية وكتاب لها، وهي تفرح برؤية اسمها مطبوعًا على أول صفحة من كل كتاب، إلا أنها دائمًا ما تقول إنها لن تقرأ كتبي أبدًا.

وفي الوقت نفسه، لديها آمال كبيرة أن أكسب جائزة ضخمة لنتمكن من السفر إلى لندن، مدينة أحلامها. تمزح فاتيما أيضًا، وكثيرًا، بشأن مكتبتي الضخمة والكتب الكثيرة التي تملأ حجرتنا، وتقول إنني سأستبدل بها الكتب ذات يوم لأنني أحب الكتب أكثر من أي شيء آخر، وأرد دائمًا: أحبك أنت أكثر من أي شيء وأي شخص آخر.